بعد مرور أربعين يومًا علي ميلاد ربنا يسوع المسيح، أحضرته القديسة مريم أمه إلي الهيكل. وهناك سمعت عن نفسها نبوة من سمعان الشيخ توضح جانبًا آخر من حياتها: وكان يوسف وأمه يتعجبان مما قيل فيه، وباركهما سمعان وقال لمريم أمه، ها أن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، ولعلامة تقاوم. وها أنت أيضًا سيجوز في نفسك سيف لتعلن أفكار من قلوب كثيرة (لوقا 33:2ـ35).
كان الاحتفال بتقديم الطفل يسوع إلي الهيكل عمل له شقين:
1ـ ليقدموه للرب (لوقا 22:2).
2ـ لكي يقدموا ذبيحة (لوقا 24:2).
قدمت القديسة مريم فرخي يمام أو زوجى حمام للذبيحة. وكان أحد الطائرين يَذبح ويحرق بكاملة للرب، أما الآخر، فُيذبح وينضح الكاهن من دمه علي الامَ فتطهر (لاويين 8:12).
هنا يدخل في الصورة ذلك الرجل البار التقي: سمعان الشيخ. الذي كان عضوًا في جماعة فقراء يهوه. الذي كان يتوقع تعزية إسرائيل.
ـ الروح القدس كان عليه.
ـ وكان قد اعلم بوحي من الروح أنه لا يري الموت قبل أن يعاين المسيح الرب.
ـ فأقبل بالروح إلي الهيكل….
في هذا النص القصير، يُذكر الروح القدس ثلاثة مرات… إن سمعان الشيخ رجل الروح، المتحرك بالروح، والعائش في الحضرة الإلهية باستمرار…إنه يبارك القديسة مريم ويوسف البار، ويحمل الطفل منهما علي ذراعيه ويبارك الله. ذلك الشيخ الوقور الروحاني يستطيع الآن أن ينطلق بسلام لأن عينيه قد أبصرتا خلاص الله الذي أعده قدام جميع الشعوب: نورًا متجليًا، ومجدًا (لوقا 29:2ـ32).
والآن يا سيد تطلق عبدك بسلام حسب قولك، لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته أمام جميع الشعوب، نورًا تجلي للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل. تتردد أصداء هذه التسبحة النابعة من فيض داخلي في أرجاء الهيكل كنبوة أبدية لعمل المسيح.
ثم يلتفت سمعان البار إلي يوسف ومريم، ويتنبأ بالروح عما سيكون من الطفل يسوع: أنه وضع لقيام وسقوط كثيرين، ولعلامة تقاوم. ثم يتوجه بالنبوة نحو القديسة مريم في جملة إعتراضية ويخبرها عن السيف الذي سيجوز في نفسها. لقد لخص سمعان الشيخ رسالة ربنا يسوع المسيح في نقطتين:
1ـ الخلاص والنور والمجد، 2ـ المقاومة والسيف.
سمعان الشيخ يحمل الطفل يسوع بين ذراعيه، ويسبّح الله من أجل الخلاص الذي جعله أمام جميع الشعوب، ومن أجل النور الذي استعلنه للأمم…أنه لا يعطي للمسيح التملك علي بيت يعقوب إلي الأبد فقط، بل رآه مسيح العالم كله، المسيا المنتظر من الأرض كلها…إنه يعيد أصداء شدو الملائكة ليلة عيد الميلاد: المجد لله في العالي، وعلي الأرض سلام، وبالناس المسرة. لقد كان سمعان البار مشبّعًا تمامًا بنبوات إشعياء النبي التي تتنبأ بأن المسيح سيكون للعالم كله:
+ وأجعلك عهدًا للشعب، ونورًا للأمم (إش9:42).
+ فقط جعلتك نورًا للأمم لتكون خلاصي إلي أقصي الأرض (إش6:49).
لقد أحس سمعان الشيخ برسالة ربنا يسوع المسيح المسكونية للعالم كله. انه سيكون نورًا للأمم، أما بالنسبة لإسرائيل فهو فقط مجدًا لشعب إسرائيل. لقد كان وقع كلمات الرجل، العائش في الروح، علي القديسة مريم ويوسف البار وقعا مفرحًا للغاية (لوقا 33:2)، أن طفلهما يسوع، ليس مجرد رمز وذكري، لنجاة الأبكار في الماضي. انه الخلاص المعلن أمام كل الشعوب، والنور المستعلن أمام جميع الأمم.
بعد ذلك باركهما الشيخ، ثم كشف لهما عما سيلاقيانه من آلام وأحزان ـ لا سيما القديسة مريم ـ حينما يتمم المسيا رسالته: فسمعان الشيخ يعلم إن يسوع هو الملك المسيا، ولكنه في نفس الوقت هو الخادم المتألم الذي تنبأ عنه إشعياء النبي أيضًا:
+ وجهي لم أستر عن العار والبصق….
+ لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه. محتقر ومخذول من الناس. رجل أوجاع ومختبر الحزن (إشعياء 4:50 ـ9، 2:52ـ3، 2:53، 12،3).
+ الملك المسيا سيتمم رسالته وسط مقاومات والآم.
+ مع وجود المسيح، ستنكشف كل أفكار القلوب، فالقلوب التي ستغلق أمام وجهه ستسقط. والقلوب التي ستتبعه ستكتشف ذاتها وتنال قيامتها الروحية. البعض سيحب المسيح، والبعض سيبغض المسيح وهذه البغضة ستؤلم المسيح.
قد لا تكون القديسة مريم حتى ذاك الوقت، مدركة تمامًا لكل أبعاد المأساة…كان عليها أن تحتمل أن تري ابنها محتقرًا ومخذولاً من الناس…تراه وهو مثقل بحمل آلام البشر، وأيضًا وهو يتمزق من أجل خطاياهم ويحترق كي يمحو آثامهم. تأديب سلامنا عليه وبجراحاته يبرأ البشر (إشعياء 4:53، 5). علي أية حال، نبوءة سمعان الشيخ للقديسة مريم قد أعدتها لملاقاة كل هذا. لقد كانت هي المرأة التي قبلت البشارة المفرحة وإنتشت بزيارة اليصابات المبهجة، وعاشت المهرجان الملائكي ليلة الميلاد، لقد كانت هي التي أخذت كل وعود الأفراح والآن عليها أن تتحمل النبؤات المضادة…لذلك قطع سمعان الشيخ الاسترسال في حديثه، ووجه كلامه للعذراء مريم وحدها قائلاً: وأنت أيضًا سيجوز في نفسك سيف. يبدو أن الشيخ كان مركزًا نظره علي القديسة مريم ويقول لها هذه الكلمات بنغمة تأكيدية ونبرة بطيئة كلمة كلمة، كي تدرك بوضوح أن هذا الحديث يخصها شخصيًا.
علي القديسة مريم أن تعرف أنها مزمعة أن تتألم كما يتألم إبنها المسيا. ويا له من ألم مهول..فكلمة سيف باليونانية المستعملة في هذه الآية (رومفايا) تعني سيف كبير حاد جدًا…آلام هذا السيف الكبير الحاد جدًا سيمس أعماق القديسة مريم، وسيحدث جروحًا غائرة…يا لها من صورة محددة جدًا ومؤثرة جدًا! إنها ليست مجرد إيذاء في المشاعر، بل هي نوع من الآلام الحادة في أعماق الكيان… تري أي ألم هذا؟
سيف كلمة الله الذي سيجوز نفسها هي الحقيقة الكلية للتجسد والفداء التي ستبلغ ذروتها عند ذبيحة الصليب. إن وقع ذبيحة المسيح الكفارية ستكوي قلبها بالآلم كما بسيف حاد. ومن قِطْع صلوات الساعة التاسعة: أما العالم فيفرح لقبوله الخلاص، وأما أحشائي فتلتهب بالنار عند نظري إلي صلبوتك الذي أنت صابر عليه يا إبني وإلهي.
يا لها من تجربة إيمانية مرة كالعلقم! كيف توفق العذراء مريم بين أن ابنها هو الملك المسيا، وبين رؤيتها إياه وهو يصلب؟ وكيف تحتمل إن تري دم ابنها وهو يسفك، وتقبل هذا الدم كفارة عنها؟ إن سيف كلمة الله سيعلن مدي إيمان قلبها، وسيختبر مدي إخلاصها لله. وبعد أن تتجرع كأس الآلام بكل غصصه، ستذوق نصرة الإيمان وقوة القيامة.
الكنيسة أيضًا مثل القديسة مريم، تمر في اختبارات إيمانية مفعمة بالآلام، لا يعزيها في كل الموت المحيط بها سوي حقائق الإيمان ووعود الرجاء، وعلامات حب الله المتواكبة مع الحياة. وكل مسيحي بدوره يمر في هذا الاختبار أيضًا، انه يعيش في الصراع بين المسيح الذي يؤمن به ويحبه وإغراءات الدينا المنصوبة حوله. المسيح هو السيف المغروز
في قلب العذراء مريم….
وفي قلب الكنيسة….
وفي قلب كل مسيحي….
سيف الإيمان الذي يفصل بين الحنطة والزوان،
والذي يحدد قيام وسقوط كل واحد.
القديسة مريم، سوف لا تتذوق نصرة الإيمان ما لم تتقبل أن يكون ابنها هو الملك المسيا، وفي نفس الوقت الخادم المتألم. إنه ابن الله، وهو المصلوب. لابد أن توافق علي أن يكون الصليب في حياة ابنها، وأيضًا توافق علي أن يكون الصليب في حياتها. إنها كأول مسيحية، وكمثال للكنيسة، ينبغي أن تتقبل ما يقوله معلمنا بولس الرسول: الذي الآن افرح في آلامي لأجلكم، وأكمل نقائص شدائد المسيح في جسمي لأجل جسده الذي هو الكنيسة (كولوسي 24:1)، وتأخذ هذا القول مباشرة علي حياتها… لنقرأ هذه الآية بهذه الطريقة: سأكمل ما هو ناقص في جسدي من آلام المسيح. لا يوجد أي نقص في آلام المسيح نفسه، أنه كفادى قد وفّي كل شيء. ولكن هناك اشتياق سري من الله أن هذه الآلام تكمل بنفس الطريقة في جسدنا البشري.
القديسة مريم، والكنيسة، وكل مسيحي، يتشبهون بموت الرب بالمعمودية والأفخارستيا، ويحملون في أنفسهم نفس الموت الذي كان له. أنهم يتألمون كي ما تنطبع صورة المصلوب علي قلوبهم ويؤمنون أنهم لا يكملون إلا بالآلام. وقد يتسائل البعض: حيث إن آلام ربنا يسوع المسيح هي آلام كفارية، وهي وحدها التي تخلصنا، فما جدوى تألمنا نحن وحملنا صورة موت المسيح في أنفسنا؟ لماذا نتشكل بهيئة آلامه طالما بركات القيامة هي لنا؟
والإجابة: إن صليب المسيح ينبغي إن يستعلن للعالم، ليس بالكلمات بل بالأفعال…إن الله يريدنا كرازة حية للرب المصلوب القائم…إن كنا كبولس لا نعزم أن نعرف شيئًا إلا المسيح وإياه مصلوب، فمن الواجب أن توسم حياتنا بسمة الصليب المباركة، وتكون هذه السمة واضحة فينا خارجيًا مع وجودها داخليًا في قلوبنا بالتأمل العميق الدائم في آلام المسيح، فيراها الناس فينا بالاضطهادات والمحن والإهانات والشدائد والآلم الخرافي الذي نتحمله من أجل المسيح. من الضروري أن نحس بقسوة الحياة في كل شعيرة من كياننا كي ما نحمل في أجسادنا سمات الرب يسوع.
لقد أراد ربنا يسوع المسيح أن يدمجنا في آلامه وأوقفنا تحت صليبه علي تل الجلجثة مع القديسة مريم ويوحنا تلميذه الحبيب. إن كل ما نعانيه في حياتنا المسيحية من آلام، يقربنا جدًا إلي المصلوب ويدخلنا إلي شركة آلامه ومشابهة موته. وبهذا أيضًا نحس بالمتألمين من البشر ونصادقهم عمليًا بحنو بالغ. ونشاركهم آلامهم كما شاركنا المسيح في آلامنا. قد نستطيع أن نشارك معارفنا آلامهم، ونشهد لمن هم حولنا شهادة آلالم، ونتألم مع من يتألمون من أقاربنا، ونعزي أخوتنا المحزونين في المسيح، ولكن ماذا نحن صانعون من أجل جميع المعذبين في الأرض؟ المسيحي لا يقف جامدًا إزاء المعاناة البشرية، والمطلوب ليس وعظًا كلاميًا فقط عن الصليب، بل شفاعة من أجل كل الناس في العالم.
حينما كتب بولس الرسول رسالته إلي أهل كولوسي. لم يكن هو الذي كرز لهم بالمسيح بل أبفراس، العبد الحبيب…والخادم الأمين (كولوسي7:1)، ولكنه أحس أنهم قد أصبحوا أعضاء نفس الجسد الواحد الذي هو بدوره عضو فيه…ورأي أن أفضل خدمة يقوم بها في سجنه هو أن يتألم من أجلهم (كولوسي24:1) فتقدمة الألم هي علي نفس مستوي تقدمة الكرازة… كلما زادت الآلام، كلما حدث تطابق بيننا وبين مسيح الجلجثة فنكون آنذاك قريبين منه جدًا، فتكون شفاعتنا ذات تأثير غير محدود. سنقدر أن نبث يسوع أحزان إخوتنا البشر… سنقدر ـ مع يوحنا الحبيب ـ أن نتكئ علي صدره لنسمع منه كلمات العزاء، ونطلب بدالة عن إخوتنا المضطربين. هذه الشفاعة تأتي بثمارها للمتألمين حتى ولو كانوا بعيدين عنا جدًا. فآلامنا ستكون شفاعة، وستتحول إلي صلاة قوية من أجل إخوتنا في أنحاء العالم كله… وما لم نبلغ إلي هذا، نكون عبيدًا بطالين….
لقد جازت القديسة مريم هذه الخبرة عينها، وجاز سيف الألم إلي أقصي مداه في نفسها. إنها كمثال للكنيسة ونموذج لكل مؤمن، عاشت أسمي حياة، واختبرت أمر الآلام:
+ إنها تحمل في قلبها آلام إبنها وموته، ملامح إبنها المتألم المصلوب منقوشة علي قلبها.
+ إنها كل يوم تكمل في جسدها ما ينقصه من شدائد المسيح، لأجل جسده الكنيسة.
+ إنها تنتزع نفسها انتزاعا متخلية عن أمومتها البشرية كي يكمل إبنها المسيا رسالته المفعمة بالأحزان.
+ إنها تشارك إبنها حياته المتألمة، وتطابق آلامها مع آلامه.
+ إنها قادرة بهذا الألم أيضًا أن تتعرف علي آلام البشر، وتشفع فيهم في سر شركة القديسين لتنال من الله عزاء وسلامًا لهم.
إما نحن فحينما ننظر إلي شركة آلام المسيح التي عاشتها القديسة مريم وكل المسيحيين الأوائل، تنطبع في قلوبنا صورة المصلوب ولا نهرب من الآلام التي تقترب إلينا عبر المسيح. عالمين أن آلامنا ليست باطلاً مادمنا نتحملها من أجل ربنا يسوع.
كيف ظهر ذلك السيف الذي تنبأ عنه سمعان الشيخ في حياة أم الفادي؟؟
ـ لم تنتظر القديسة مريم طويلاً بعد تقديم الطفل يسوع إلي الهيكل لتري في حياتها بشائر الألم… فزيارة المجوس ـ التي تعني رسالة المسيح المسكونية ـ تبعها علي الفور الذهاب إلي أرض مصر هربًا من اضطهاد هيرودس.
وكان عليهم أن يعيشوا كلاجئين في أرض غريبة حتى موت الملك. وكان في بيت لحم مذبحة للأطفال الرضعان الأبرياء الذين دفعوا ثمن حياة الطفل المسيا باستشهادهم. لقد تحملت القديسة مريم آلام النفي، ومع كل أم ثكلي في بيت لحم تحملّت العذراء الصرخات المرة القاسية… لقد عاد إلي بيت لحم مشهد ليلة الفصح: لقد أفتدي يسوع البكر، في حين كل الأطفال الذين في سنة قد ذاقوا الموت.
ـ في عودتهما من أرض مصر، سيذهبان إلي الناصرة ليعيشا هناك حياة بعيدة عن الأنظار في جليل الأمم.
ـ وحينما بلغ يسوع الثانية عشر، أخذاه إلي أورشليم، وكانت الأمور تسير سيرها الطبيعي في هدوء… ولكنهما حينما تركا أورشليم لم يجدا يسوع معهما، بحثا عنه ثلاثة أيام وسط مشاعر الحزن والنكد.. لم يكن وسط الرفقة ولا مع الأصدقاء والأحباء في أورشليم. يمكننا أن نتصور مدي حزن وقلق العذراء وهي تبحث عن يسوع الذي غاب ثلاثة أيام قضاها في بيت الآب. ربما كانت هذه الثلاثة أيام رمزًا لغيابه المقبل في القبر ثلاثة أيام. وحينما وجداه تجمدا من شدة الانفعال.. ستعرف القديسة مريم هذا الانفعال مرة أخري يوم قيامته من القبر… وهي الآن تأخذ فكرة عن سر آلامه. دورها الرئيسي الآن هو أن تتخلي عن أمومتها البشرية، وتترك إبنها حرًا. عليها أن تنفصل وتنتزع نفسها من كل علاقات الأمومة البشرية الطبيعية مع المسيح، كي لا تعود تري فيه أي شيء سوي بنوته لله. سمعان الشيخ لفت نظرها إلي دورها. وهي نفسها أصعدت إبنها تقدمة للرب في الهيكل. ولكنها رغم هذا لم تتوقف ولم تمنع نفسها أن تتكلم عن أمومتها في إضطرابها: يا بني لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين (لوقا 48:2). هنا تظهر أمومة القديسة مريم البشرية بكل انفعالاتها الجياشة… ولكن يسوع ينبه والديه إلي مفهوم عملهما الأول حينما قدماه في الهيكل: لماذا كنتما تطلبانني؟ ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون فيما لأبي؟ (لوقا 49:2). فالمسيح هنا يأخذ وضعه المنطقي طبقًا للإصعاد والتقديم للرب في الهيكل منذ مولده.
هيكل الله هو مكانه الطبيعي، وعلي والديه أن يفهما أنه أتي علي الأرض كي ما ينشغل بشئون أبيه السماوي. مريم تذكر أمام إبنها اهتمام يوسف المعتبر أباه، ولكن يسوع يذكرها في إجابته أن أباه هو الله. فينبغي أن يعيشا معه بنفس نية إحضاره إلي الهيكل، وعلي مستوي نبوءة سمعان الشيخ. عليهما أن يقبلا التضحية بحبهما البشري كي يسمحا لإبنهما أن يبدأ عمله الماسياني في خدمة أبيه.
ولكن مريم ويوسف لم يفهما الكلمة التي تكلم بها… علي أية حال، ستتضح التزاماتها نحو إبنها الخادم المتألم قليلاً قليلاً أمام عينيها. إنها تحتفظ بكل هذه الأمور متفكرة بها في قلبها. كانت تربط كل حادثة بالأخرى، ويومًا فيومًا ستكون قادرة أن تقف تحت الصليب مع إبنها المتألم، وبعدها ستبتهج بقيامته، وتنال نور الروح القدس في العنصرة…. يسوع الآن يعود معها إلي الناصرة. أنه خاضع لوالديه البشريين.
عاش بعدها في الظل لمدة ثماني عشرة سنة ـ يوسف البار قد يكون تنيح في تلك الفترة، وتقدمت مريم في أيامها وقد صارت أرملة. بعدها خرج يسوع إلي رسالته، فتعمد من يوحنا وجمع حوله تلاميذ (يوحنا 11:2) وفي قانا الجليل يقوم بأول معجزة له مظهرًا مجده فيؤمن به تلاميذه.
قالت القديسة مريم: ليس لهم خمر.
قال ربنا يسوع: ما لي ولك يا امرأة، لم تأتِ ساعتي بعد (يوحنا 3:2، 4).
إن يسوع يريد أن يحرك القديسة مريم من وضع أمومتها البشرية له، لكي ما تأخذ مكانها في الكنيسة التي أتي ليؤسسها وهذا يتضح من واقعة أخري: فذات يوم أتت إليه أمه وأخوته وكان يعظ الجمع، فطلبوا أن يتكلموا معه فلما قيل له إنهم خارجًا يطلبونه قال: من هي أمي ومن هم أخوتي؟ ثم مد يده نحو تلاميذه وقال ها أمي وأخوتي. لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي (متي 46:12 ـ50).
فربنا يسوع المسيح، يضع الأبوة السمائية، والأمومة الكنسية، والأخوة الروحية في مرتبة أسمي من كل العلاقات الأسرية البشرية. إنه يريد أن يرتفع بمستوي العذراء ويزيدها تعظيمًا بأن يحولها من مجرد أم بشرية له إلي أم روحية في الكنيسة. ولكن هذا التحول يتطلب تضحية وتحمل للآلام من جانب القديسة مريم. فهي وإن قبلت هذا التطور، ستظل تعاني حزنًا بشريًا حينما تنسلخ وتنتزع ذاتها من رابطة الأمومة البشرية مع إبنها المسيا.
ـ أخيرًا، تحت أقدام الصليب، ستعرف القديسة مريم أحد ألم يحدثه السيف الذي تحدث عنه سمعان البار…
+ ذلك الإبن الذي ولدته وربته وأحبته…تراه مصلوبًا كفاعل شر، وكل رجائها كان منعقدًا عليه ليكون هو المسيا المنتظر!!!
إنها كأم، قلبها يتمزق هنا في هذا الموقف أكثر من كل موقف آخر: لا توجد دماء نازفة من جراح ربنا يسوع المسيح إلا وأختلطت بدموع العذراء. ومع جسد يسوع المائت دفن قلب القديسة مريم.
لم يبق لها سوي الإيمان البحت الخالي من أي علامة.. لقد لطّف يسوع من عذابها حينما سلمها إلي تلميذه الحبيب. هكذا الظلمة التي حدثت علي الأرض، شاركتها في أحزانها.
كان كيانها كله يرجف ويرتعد حزنًا علي إبنها المصلوب، وقلبها قد تصدع من الآلم…
العذراء مريم فوق الجلجثة، مثال أقرب ما يكون للكنيسة … ولكل مؤمن يعاني اضطهادًا لأنها تكشف لنا طريق المشابهة مع المسيح المصلوب، حيث نختبر نفس الآلام في جسدنا. لعلنا نبلغ يومًا ما إلي مجد قيامته.