آلام العذراء والسيف – من الكتاب الشهري أغسطس 2010
بعد مرور أربعين يومًا علي ميلاد ربنا يسوع المسيح، أحضرته القديسة مريم أمه إلي الهيكل. وهناك سمعت عن نفسها نبوة من سمعان الشيخ توضح جانبًا آخر من حياتها: وكان يوسف وأمه يتعجبان مما قيل فيه، وباركهما سمعان وقال لمريم أمه، ها أن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، ولعلامة تقاوم. وها أنت أيضًا سيجوز في نفسك سيف لتعلن أفكار من قلوب كثيرة (لوقا 33:2ـ35). كان الاحتفال بتقديم الطفل يسوع إلي الهيكل عمل له شقين: 1ـ ليقدموه للرب (لوقا 22:2). 2ـ لكي يقدموا ذبيحة (لوقا 24:2). قدمت القديسة مريم فرخي يمام أو زوجى حمام للذبيحة. وكان أحد الطائرين يَذبح ويحرق بكاملة للرب، أما الآخر، فُيذبح وينضح الكاهن من دمه علي الامَ فتطهر (لاويين 8:12). هنا يدخل في الصورة ذلك الرجل البار التقي: سمعان الشيخ. الذي كان عضوًا في جماعة فقراء يهوه. الذي كان يتوقع تعزية إسرائيل. ـ الروح القدس كان عليه. ـ وكان قد اعلم بوحي من الروح أنه لا يري الموت قبل أن يعاين المسيح الرب. ـ فأقبل بالروح إلي الهيكل…. في هذا النص القصير، يُذكر الروح القدس ثلاثة مرات… إن سمعان الشيخ رجل الروح، المتحرك بالروح، والعائش في الحضرة الإلهية باستمرار…إنه يبارك القديسة مريم ويوسف البار، ويحمل الطفل منهما علي ذراعيه ويبارك الله. ذلك الشيخ الوقور الروحاني يستطيع الآن أن ينطلق بسلام لأن عينيه قد أبصرتا خلاص الله الذي أعده قدام جميع الشعوب: نورًا متجليًا، ومجدًا (لوقا 29:2ـ32). والآن يا سيد تطلق عبدك بسلام حسب قولك، لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته أمام جميع الشعوب، نورًا تجلي للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل. تتردد أصداء هذه التسبحة النابعة من فيض داخلي في أرجاء الهيكل كنبوة أبدية لعمل المسيح. ثم يلتفت سمعان البار إلي يوسف ومريم، ويتنبأ بالروح عما سيكون من الطفل يسوع: أنه وضع لقيام وسقوط كثيرين، ولعلامة تقاوم. ثم يتوجه بالنبوة نحو القديسة مريم في جملة إعتراضية ويخبرها عن السيف الذي سيجوز في نفسها. لقد لخص سمعان الشيخ رسالة ربنا يسوع المسيح في نقطتين: 1ـ الخلاص والنور والمجد، 2ـ المقاومة والسيف. سمعان الشيخ يحمل الطفل يسوع بين ذراعيه، ويسبّح الله من أجل الخلاص الذي جعله أمام جميع الشعوب، ومن أجل النور الذي استعلنه للأمم…أنه لا يعطي للمسيح التملك علي بيت يعقوب إلي الأبد فقط، بل رآه مسيح العالم كله، المسيا المنتظر من الأرض كلها…إنه يعيد أصداء شدو الملائكة ليلة عيد الميلاد: المجد لله في العالي، وعلي الأرض سلام، وبالناس المسرة. لقد كان سمعان البار مشبّعًا تمامًا بنبوات إشعياء النبي التي تتنبأ بأن المسيح سيكون للعالم كله: + وأجعلك عهدًا للشعب، ونورًا للأمم (إش9:42). + فقط جعلتك نورًا للأمم لتكون خلاصي إلي أقصي الأرض (إش6:49). لقد أحس سمعان الشيخ برسالة ربنا يسوع المسيح المسكونية للعالم كله. انه سيكون نورًا للأمم، أما بالنسبة لإسرائيل فهو فقط مجدًا لشعب إسرائيل. لقد كان وقع كلمات الرجل، العائش في الروح، علي القديسة مريم ويوسف البار وقعا مفرحًا للغاية (لوقا 33:2)، أن طفلهما يسوع، ليس مجرد رمز وذكري، لنجاة الأبكار في الماضي. انه الخلاص المعلن أمام كل الشعوب، والنور المستعلن أمام جميع الأمم. بعد ذلك باركهما الشيخ، ثم كشف لهما عما سيلاقيانه من آلام وأحزان ـ لا سيما القديسة مريم ـ حينما يتمم المسيا رسالته: فسمعان الشيخ يعلم إن يسوع هو الملك المسيا، ولكنه في نفس الوقت هو الخادم المتألم الذي تنبأ عنه إشعياء النبي أيضًا: + وجهي لم أستر عن العار والبصق…. + لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه. محتقر ومخذول من الناس. رجل أوجاع ومختبر الحزن (إشعياء 4:50 ـ9، 2:52ـ3، 2:53، 12،3). + الملك المسيا سيتمم رسالته وسط مقاومات والآم. + مع وجود المسيح، ستنكشف كل أفكار القلوب، فالقلوب التي ستغلق أمام وجهه ستسقط. والقلوب التي ستتبعه ستكتشف ذاتها وتنال قيامتها الروحية. البعض سيحب المسيح، والبعض سيبغض المسيح وهذه البغضة ستؤلم المسيح. قد لا تكون القديسة مريم حتى ذاك الوقت، مدركة تمامًا لكل أبعاد المأساة…كان عليها أن تحتمل أن تري ابنها محتقرًا ومخذولاً من الناس…تراه وهو مثقل بحمل آلام البشر، وأيضًا وهو يتمزق من أجل خطاياهم ويحترق كي يمحو آثامهم. تأديب سلامنا عليه وبجراحاته يبرأ البشر (إشعياء 4:53، 5). علي أية حال، نبوءة سمعان الشيخ للقديسة مريم قد أعدتها لملاقاة كل هذا. لقد كانت هي المرأة التي قبلت البشارة المفرحة وإنتشت بزيارة اليصابات المبهجة، وعاشت المهرجان الملائكي ليلة الميلاد، لقد كانت هي التي أخذت كل وعود الأفراح والآن عليها أن تتحمل النبؤات المضادة…لذلك قطع سمعان الشيخ الاسترسال في حديثه، ووجه كلامه للعذراء مريم وحدها قائلاً: وأنت أيضًا سيجوز في نفسك سيف. يبدو أن الشيخ كان مركزًا نظره علي القديسة مريم ويقول لها هذه الكلمات بنغمة تأكيدية ونبرة بطيئة كلمة كلمة، كي تدرك بوضوح أن هذا الحديث يخصها شخصيًا. علي القديسة مريم أن تعرف أنها مزمعة أن تتألم كما يتألم إبنها المسيا. ويا له من ألم مهول..فكلمة سيف باليونانية المستعملة في هذه الآية (رومفايا) تعني سيف كبير حاد جدًا…آلام هذا السيف الكبير الحاد جدًا سيمس أعماق القديسة مريم، وسيحدث جروحًا غائرة…يا لها من صورة محددة جدًا ومؤثرة جدًا! إنها ليست مجرد إيذاء في المشاعر، بل هي نوع من الآلام الحادة في أعماق الكيان… تري أي ألم هذا؟ سيف كلمة الله الذي سيجوز نفسها هي الحقيقة الكلية للتجسد والفداء التي ستبلغ ذروتها عند ذبيحة الصليب. إن وقع ذبيحة المسيح الكفارية ستكوي قلبها بالآلم كما بسيف حاد. ومن قِطْع صلوات الساعة التاسعة: أما العالم فيفرح لقبوله الخلاص، وأما أحشائي فتلتهب بالنار عند نظري إلي صلبوتك الذي أنت صابر عليه يا إبني وإلهي. يا لها من تجربة إيمانية مرة كالعلقم! كيف توفق العذراء مريم بين أن ابنها هو الملك المسيا، وبين رؤيتها إياه وهو يصلب؟ وكيف تحتمل إن تري دم ابنها وهو يسفك، وتقبل هذا الدم كفارة عنها؟ إن سيف كلمة الله سيعلن مدي إيمان قلبها، وسيختبر مدي إخلاصها لله. وبعد أن تتجرع كأس الآلام بكل غصصه، ستذوق نصرة الإيمان وقوة القيامة. الكنيسة أيضًا مثل القديسة مريم، تمر في اختبارات إيمانية مفعمة بالآلام، لا يعزيها في كل الموت المحيط بها سوي حقائق الإيمان ووعود الرجاء، وعلامات حب الله المتواكبة مع الحياة. وكل مسيحي بدوره يمر في هذا الاختبار أيضًا، انه يعيش في الصراع بين المسيح الذي يؤمن به ويحبه وإغراءات الدينا المنصوبة حوله. المسيح هو السيف المغروز في قلب العذراء مريم…. وفي قلب الكنيسة…. وفي قلب كل مسيحي…. سيف الإيمان الذي يفصل بين الحنطة والزوان، والذي يحدد قيام وسقوط كل واحد. القديسة مريم، سوف لا تتذوق نصرة الإيمان ما لم تتقبل أن يكون
آلام العذراء والسيف – من الكتاب الشهري أغسطس 2010 قراءة المزيد »